فصل: فصل بيانِ ما يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل عَدَد الصلوات

وَأَمَّا عَدَدُهَا فَالْخَمْسُ ثَبَتَ ذلك بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فما تَلَوْنَا من الْآيَاتِ التي فيها فَرْضِيَّةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى‏}‏ إشَارَةٌ إلَى ذلك لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَعَطَفَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى عليها وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عليه في الْأَصْلِ فَهَذَا يَقْتَضِي جَمْعًا يَكُونُ له وُسْطَى وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذلك الْجَمْعِ وَأَقَلُّ جَمْعٍ يَكُونُ له وُسْطَى وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذلك الْجَمْعِ هو الْخَمْسُ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ وَالسِّتَّ لَا وُسْطَى لَهُمَا

وَكَذَا هو شَفْعٌ إذْ الْوَسَطُ ما له حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في الشَّفْعِ وَالثَّلَاثُ له وُسْطَى لَكِنَّ الْوُسْطَى ليس غير الْجَمْعِ إذْ الإثنان لَيْسَا بِجَمْعٍ صَحِيحٍ وَالسَّبْعَةُ وَكُلُّ وِتْرٍ بَعْدَهَا له وُسْطَى لَكِنَّهُ ليس بِأَقَلِّ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ أَقَلُّ من ذلك وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فقال هل عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هذا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ على هذا من غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا قال عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ لِمَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَالسُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَالْمَشْهُورَةَ ما أَوْجَبَتْ زِيَادَةً على خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَالْقَوْلُ بِفَرْضِيَّةِ الزِّيَادَةِ عليها بِأَخْبَارِ الْآحَادِ يَكُونُ قَوْلًا بِفَرْضِيَّةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلَا يَلْزَمُ هذا أَبَا حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يقول بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَإِنَّمَا يقول بِوُجُوبِهِ وَالْفَرْقُ بين الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كما بين السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ على ما عُرِفَ في مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ‏.‏

فصل عَدَد رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ

وَأَمَّا عَدَدُ رَكَعَاتِ هذه الصَّلَوَاتِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَإِنْ كان مُقِيمًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ عَرَفْنَا ذلك بِفِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَهَذَا لِأَنَّهُ ليس في كِتَابِ اللَّهِ عَدَدُ رَكَعَاتِ هذه الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً في حَقِّ الْمِقْدَارِ ثُمَّ زَالَ الْإِجْمَالُ بِبَيَانِ النبي صلى الله عليه وسلم قَوْلًا وَفِعْلًا كما في نُصُوصِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك وَإِنْ كان مُسَافِرًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا في حَقِّهِ إحْدَى عَشْرَةَ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ وَثَلَاثُ وَرَكْعَتَانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ كما في حَقِّ الْمُقِيمِ‏.‏

فصل صَلَاة الْمُسَافِرِ

وَالْكَلَامُ في صَلَاةِ الْمُسَافِرِ يَقَعُ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ من الصَّلَاةِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا وَيَبْطُلُ بِهِ السَّفَرُ وَيَعُودُ إلَى حُكْمِ الْإِقَامَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ وقال الشَّافِعِيُّ أَرْبَعٌ كَفَرْضِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ رُخْصَةً من مَشَايِخِنَا من لَقَّبَ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ وَالْإِكْمَالَ رُخْصَةٌ وَهَذَا التَّلْقِيبُ على أَصْلِنَا خَطَأٌ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا حَقِيقَةً عِنْدَنَا بَلْ هُمَا تَمَامُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَالْإِكْمَالُ ليس رُخْصَةً في حَقِّهِ بَلْ هو إسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ هَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال من أَتَمَّ الصَّلَاةَ في السَّفَرِ فَقَدْ أَسَاءَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ‏.‏

وَهَذَا لِأَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عن الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِعَارِضٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ ولم يُوجَدْ مَعْنَى التَّغْيِيرِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ رَأْسًا إذْ الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جميعا لِمَا يُذْكَرْ ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَأُقِرَّتْ الرَّكْعَتَانِ على حَالِهِمَا في حَقِّ الْمُسَافِرِ كما كَانَتَا في الْأَصْلِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى التَّغْيِيرِ أَصْلًا في حَقِّهِ وفي حَقِّ الْمُقِيمِ وُجِدَ التَّغْيِيرُ لَكِنْ إلَى الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ لَا إلَى السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ وَالرُّخْصَةُ تنبىء عن ذلك فلم يَكُنْ ذلك رُخْصَةً في حَقِّهِ حَقِيقَة‏.‏

وَلَوْ سُمِّيَ فَإِنَّمَا سُمِّيَ مَجَازًا لِوُجُودِ بَعْضِ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ هو التَّغْيِيرُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من الصَّلَاةِ‏}‏ ولفظة ‏[‏ولفظ‏]‏ لَا جُنَاحَ تُسْتَعْمَلُ في الْمُبَاحَاتِ وَالْمُرَخَّصَاتِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَالْعَزَائِمِ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَلَا فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ وَالْمُتَصَدَّقُ عليه يَكُونُ مُخْتَارًا في قَبُولِ الصَّدَقَةِ كما في التَّصَدُّقِ من الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُسَافِرِ تَخْفِيفًا عليه في السَّفَرِ الذي هو مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَضَاعِفَةِ وَالتَّخْفِيفُ في التَّخْيِيرِ فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْقَصْرِ وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْإِكْمَالِ كما في الْإِفْطَارِ في شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ على لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرُوِيَ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ‏.‏

وَرَوَى الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ وأبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه هَكَذَا وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت فُرِضَتْ الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ في الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ في السَّفَر على ما كانت وَرُوِيَ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما سَافَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ وَلَوْ كان الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالْإِكْمَالُ هو الْعَزِيمَةُ لَمَا تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إلَّا أَحْيَانًا إذْ الْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ وكان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا وكان لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ في حَقِّ الْأُمَّةِ فَأَمَّا تَرْكُ الْأَفْضَلِ أَبَدًا وَفِيهِ تَضْيِيعُ الْفَضِيلَةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم في جَمِيعِ عُمْرِهِ فَمِمَّا لَا يُحْتَمَلُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَصَرَ بِمَكَّةَ وقال لِأَهْلِ مَكَّةَ أَتِمُّوا يا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ فَلَوْ جَازَ الْأَرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ على الرَّكْعَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كان يَغْتَنِمُ زِيَادَةَ الْعَمَلِ في الْحَرَمِ لِمَا لِلْعِبَادَةِ فيه من تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَالثَّانِي أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان إمَامًا وَخَلْفَهُ الْمُقِيمُونَ من أَهْلِ مَكَّةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا كيلا يَحْتَاجَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ إلَى التَّفَرُّدِ وَلِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الِائْتِمَامِ بِهِ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ وَحَيْثُ لم يَفْعَلْ دَلَّ ذلك على صِحَّةِ ما قُلْنَا‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عليه أَصْحَابُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى قال لهم إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ وقد سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول من تَأَهَّلَ بِقَوْمٍ فهم ‏[‏فهو‏]‏ منهم فَدَلَّ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏

وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْفَرْضَ ما قُلْنَا إذْ لو كان الْأَرْبَعُ عَزِيمَةً لَمَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عليه وَلَمَا اعْتَذَرَ هو إذْ لَا يُلَامُ على الْعَزَائِمِ وَلَا يُعْتَذَرُ عنها فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما قُلْنَا وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن الصَّلَاةِ في السَّفَرِ فقال رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ من خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ أَيْ خَالَفَ السُّنَّةَ اعْتِقَادًا لَا فِعْلًا وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ وكان أَحَدُهُمَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ في السَّفَرِ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عن حَالِهِمَا فقال لِلَّذِي قَصَرَ أنت أَكْمَلْتَ وقال لِلْآخَرِ أنت قَصَرْتَ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فيها أَصْلُ الْقَصْرِ لَا صِفَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ وَالْقَصْرُ قد يَكُونُ عن الرَّكَعَاتِ وقد يَكُونُ عن الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ وقد يَكُونُ عن الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ لَا بِتَرْكِ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ مُرَخَّصٌ عِنْدَنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ مع ما أَنَّ في الْآيَةِ ما يَدُلُّ على أَنَّ الْمُرَادَ منه ليس هو الْقَصْرُ عن الرَّكَعَاتِ وهو تَرْكُ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الْخَوْفِ وهو خَوْفُ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وَالْقَصْرُ عن الرَّكَعَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ الْخَوْفِ بَلْ يَجُوزُ من غَيْرِ خَوْفٍ وَالْحَدِيثُ دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ فَلَا يَبْقَى له خِيَارُ الرَّدِّ شَرْعًا إذْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقَوْلُهُ الْمُتَصَدَّقُ عليه يَكُونُ مُخْتَارًا في الْقَبُولِ قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ حَكَمَ عَلَيْكُمْ على أَنَّ التَّصَدُّقَ من اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ يَكُونُ عِبَارَةً عن الْإِسْقَاطِ كَالْعَفْوِ من اللَّهِ تَعَالَى وما ذُكِرَ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هذا ليس تَرْفِيهًا بِقَصْرِ شَطْرِ الصَّلَاةِ بَلْ لم يُشْرَعْ في السَّفَرِ إلَّا هذا الْقَدْرُ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه لَا تَقُولُوا قَصْرًا فإن الذي فَرَضَهَا في الْحَضَرِ أَرْبَعًا هو الذي فَرَضَهَا في السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ إبْطَالُ قَدْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُوَظَّفَةِ عليهم بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ من أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا أو الْفَجْرَ ثَلَاثًا أو أَرْبَعًا لَا يَقْدِرُ على ذلك كَذَا هذا وَلَا قَصْرَ في الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنْهُمَا لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَكَذَا لَا قَصْرَ في السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِالتَّوْقِيفِ وَلَا تَوْقِيفَ ثَمَّةَ وَمِنْ الناس من قال بِتَرْكِ السُّنَنِ في السَّفَرِ‏.‏

وَرُوِيَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قال لو أُتِيتَ بِالسُّنَنِ في السَّفَرِ لَأَتْمَمْتُ الْفَرِيضَةَ وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ على حَالَةِ الْخَوْفِ على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُكْثُ لِأَدَاءِ السُّنَنِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لو اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا بَلْ الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ وَالشَّطْرُ الثَّانِي يَقَعُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا حتى لو لم يَقْعُدْ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ في حَقِّهِ وَهِيَ فَرْضٌ وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ في الْمَكْتُوبَاتِ بِلَا خِلَافٍ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ في الْوَقْتِ وفي خَارِجِ الْوَقْتِ وفي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَاقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ يَجُوزُ في الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ في خَارِجِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا لِأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ قد تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ فَكَانَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضًا في حَقِّهِ فَيَكُونُ هذا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في حَقِّ الْقَعْدَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْوَقْتِ وَلَا في اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ أو في وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ في الرَّكْعَتَيْنِ في صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ فَرْضٌ وقد فَاتَ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ بِالْقَضَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ وَإِنْ كانت هِيَ الْأَرْبَعُ عِنْدَهُ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ عِنْدَهُ وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ في الظُّهْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على نَفْسِهِ في الْوَقْتِ أو بَعْدَ ما خَرَجَ الْوَقْتُ فإن عليه أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا يَجُوزُ له الْقَصْرُ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ في حَقِّ الْمُسَافِرِ هِيَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُقِيمِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وقد بَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ بِبُطْلَانِ الِاقْتِدَاءِ فَيَعُودُ حُكْمُ الْأَصْلِ وعنده لَمَّا كانت الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الْقَصْرُ رُخْصَةً فإذا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَتَأَكَّدَ عليه وُجُوبُ الْأَرْبَعِ فَلَا تَجُوزُ له الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذلك وَيَسْتَوِي في الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ على الْمُسَافِرِ من الصَّلَاةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ من الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَسَفَرُ الْمُبَاحِ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْبَغْيِ وَهَذَا عِنْدَنَا‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَثْبُتُ رُخْصَةُ الْقَصْرِ في سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ إن رُخْصَةَ الْقَصْرِ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا أو نَظَرًا على الْمُسَافِرِ وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَالتَّخْفِيفَ وَلَنَا أَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفصل بين مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا من أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ صَلَاةُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ فَالْخَوْفُ لَا يُؤَثِّرُ في نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُقِيمًا كان الْخَائِفُ أو مُسَافِرًا وهو قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ في سُقُوطِ اعْتِبَارِ بَعْضِ ما يُنَافِي الصَّلَاةَ في الْأَصْلِ من الْمَشْيِ وَنَحْوِ ذلك على ما نَذْكُرُهُ في صَلَاةِ الْخَوْفِ إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل بيانِ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا فَاَلَّذِي يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجُ من عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا مُدَّةُ السَّفَرِ وَأَقَلُّهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مُقَدَّرٌ‏.‏وَاخْتَلَفُوا في التَّقْدِيرِ قال أَصْحَابُنَا مَسِيرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ وهو الْمَذْكُورُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قَدَّرَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَجَعَلَ لِكُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ فَرَاسِخَ وَمِنْهُمْ من قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ وقال مَالِكٌ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ إثنا عَشَرَ مِيلًا‏.‏

وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الشَّافِعِيِّ فيه قِيلَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وهو قَرِيبٌ من قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَافِلَةَ لَا تَقْطَعُ في يَوْمٍ أَكْثَرَ من خَمْسَةِ فَرَاسِخَ وَقِيلَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَثْبَتُ أَقْوَالِهِ إنه مُقَدَّرٌ بِيَوْمَيْنِ‏.‏

أَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من الصَّلَاةِ‏}‏ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِمُطْلَقِ الضَّرْبِ في الْأَرْضِ فَالتَّقْدِيرُ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَنَا ما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا جَعَلَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَلُّ من هذه الْمُدَّةِ‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مع مَحْرَمٍ أو زَوْجٍ فَلَوْ لم تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلَاثِ لم يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَعْنًى وَالْحَدِيثَانِ في حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِمَا إنْ كان تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ نَسْخًا مع ما أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ في الْأَرْضِ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن السَّيْرِ فيها مُسَافِرًا يُقَالُ ضَرَبَ في الْأَرْضِ أَيْ سَارَ فيها مُسَافِرًا فَكَانَ الضَّرْبُ في الْأَرْضِ عِبَارَةً عن سَيْرٍ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُسَافِرًا لَا مُطْلَقَ السَّيْرِ وَالْكَلَامُ في أَنَّهُ هل يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَيْرٍ مُطْلَقٍ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ وَكَذَا مُطْلَقُ الضَّرْبِ في الْأَرْضِ يَقَعُ على سَيْرٍ يُسَمَّى سَفَرًا وَالنِّزَاعُ في تَقْدِيرِهِ شَرْعًا وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عن ذلك وقد وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّقْدِيرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَالله الموفق‏.‏

وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال يا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وهو غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا ثبتت ‏[‏تثبت‏]‏ لِضَرْبِ مَشَقَّةٍ يَخْتَصُّ بها الْمُسَافِرُونَ وَهِيَ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ وَالسَّيْرِ وَالنُّزُولِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ رَحْلِهِ من غَيْرِ أَهْلِهِ وَحَطِّهِ في غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرِ وَهَذِهِ الْمَشَقَّاتُ تَجْتَمِعُ في يَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحُطُّ الرَّحْلَ في غَيْرِ أَهْلِهِ وفي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُهُ من غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرُ مَوْجُودٌ في الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فيه إلَّا مَشَقَّةُ السَّيْرِ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الرَّحْلَ من وَطَنِهِ وَيَحُطُّهُ في مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَيُقَدَّرُ بِيَوْمَيْنِ لِهَذَا‏.‏

وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِكْمَالِ كان ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ إلَّا بمثله وما دُونَ الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فيه وَالثَّلَاثُ مُجْمَعٌ عليه فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وما ذُكِرَ من الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَنْ سَافَرَ يَوْمًا على قَصْدِ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فإنه يَلْحَقُهُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ وَالْحَطِّ وَالسَّيْرِ على ما ذُكِرَ وَمَعَ هذا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ‏.‏

وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِاجْتِمَاعِ الْمَشَقَّاتِ في يَوْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ في الْيَوْمِ الثَّانِي مَشَقَّةُ حَمْلِ الرَّحْلِ من غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرُ وَحَطُّهُ في غَيْرِ أَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ لِأَنَّ أَبْطَأَ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ وَالْأَسْرَعَ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ فَكَانَ أَوْسَطُ أَنْوَاعِ السَّيْرِ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَلِأَنَّ الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ يَتَجَاذَبَانِ فَيَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ على الْوَسَطِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ سَارَ في الْمَاءِ يَوْمًا وَذَلِكَ في الْبَرِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلْإِسْرَاعِ وَكَذَا لو سَارَ في الْبَرِّ إلَى مَوْضِعٍ في يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَقْصُرُ اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ وَعَلَى هذا إذَا سَافَرَ في الْجِبَالِ وَالْعَقَبَاتِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فيها لَا في السَّهْلِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِمَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو بِالْمَرَاحِلِ في السَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ في كل ذلك السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فيه وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الناس فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَالتَّقْدِيرُ بِالْفَرَاسِخِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ‏.‏

وقال أبو حَنِيفَةَ إذَا خَرَجَ إلَى مِصْرٍ في ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ من طَرِيقٍ آخَرَ في يَوْمٍ وَاحِدٍ قَصَرَ‏.‏ وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان لِغَرَضٍ صَحِيحٍ قَصَرَ وَإِنْ كان من غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ لم يَقْصُرْ وَيَكُونُ كَالْعَاصِي في سَفَرِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ على قَصْدِ السَّفَرِ وقد وُجِدَ وَالثَّانِي نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ السَّيْرَ قد يَكُونُ سَفَرًا وقد لَا يَكُونُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَخْرُجُ من مِصْرِهِ إلَى مَوْضِعٍ لِإِصْلَاحِ الضَّيْعَةِ ثُمَّ تَبْدُو له حَاجَةٌ أُخْرَى إلَى الْمُجَاوَزَةِ عنه إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ليس بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ من مُدَّةِ السَّفَرِ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ فَلَا بُدَّ من النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ‏.‏

وَالْمُعْتَبَرُ في النِّيَّةِ هو نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ حتى يَصِيرَ الْعَبْدُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَوْلَاهُ وَالزَّوْجَةُ بَنِيَّةِ الزَّوْجِ وَكُلُّ من لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَأَمَّا الْغَرِيمُ مع صَاحِبِ الدَّيْنِ فَإِنْ كان مَلِيًّا فَالنِّيَّةُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْخُرُوجُ من يَدِهِ وَإِنْ كان مُفْلِسًا فَالنِّيَّةُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ من يَدِهِ فَكَانَ تَابِعًا له وَالثَّالِثُ الْخُرُوجُ من عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ ما يَخْرُجْ من عُمْرَانِ الْمِصْرِ وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ من الْبَصْرَةِ بريد ‏[‏يريد‏]‏ الْكُوفَةَ صلى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وقال لو جَاوَزْنَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كانت مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ عَفْوٌ وَفِعْلُ السَّفَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ من الْمِصْرِ فما لم يَخْرُجْ لَا يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا‏.‏

وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ في مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ حَيْثُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ هُنَاكَ قَارَنَتْ الْفِعْلَ وهو تَرْكُ السَّفَرِ لِأَنَّ تَرْكَ الْفِعْلِ فِعْلٌ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَسَوَاءً خَرَجَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ أو في وَسَطِهِ أو في آخِرِهِ حتى لو بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِأَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ فإنه يَقْصُرُ في ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا‏.‏

وقال محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ إنَّمَا يَقْصُرُ إذَا خَرَجَ قبل الزَّوَالِ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَالِ فإنه يُكْمِلُ الظُّهْرَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْعَصْرَ وقال الشَّافِعِيُّ إذَا مَضَى من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يُمْكِنُهُ أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فيه يَجِبُ عليه الْإِكْمَالُ وَلَا يَجُوزُ له الْقَصْرُ وَإِنْ مَضَى دُونَ ذلك اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فيه وَإِنْ بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا غَيْرُ أو لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا أَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فبناه ‏[‏فبناء‏]‏ على أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ أو في آخِرِهِ فَعِنْدَهُمْ تَجِبُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ فَكُلَّمَا دخل الْوَقْتُ أو مَضَى منه مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِأَدَاءِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ عليه أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَلَا يَسْقُطُ شَطْرُهَا بِسَبَبِ السَّفَرِ بَعْدَ ذلك كما إذَا صَارَتْ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَسْقُطُ الشَّطْرُ كَذَا هَهُنَا‏.‏

وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا لَا تَجِبُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ على التَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَجِبُ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إلَى الْمُصَلِّي من حَيْثُ الْفِعْلِ حتى أَنَّهُ إذَا شَرَعَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ في ذلك الْوَقْتِ وَكَذَا إذَا شَرَعَ في وَسَطِهِ أو آخِرِهِ وَمَتَى لم يُعَيِّنْ بِالْفِعْلِ حتى بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يُصَلِّي فيه أَرْبَعًا وهو مُقِيمٌ يَجِبُ عليه تَعْيِينُ ذلك الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا حتى يَأْثَمَ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ وَإِنْ كان لَا يَتَعَيَّنُ لِلْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ شَرْعًا حتى لو صلى فيه التَّطَوُّعَ جَازَ وإذا كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ أَدَاءُ الْأَرْبَعِ وَاجِبًا قبل الشُّرُوعِ

فإذا نَوَى السَّفَرَ وَخَرَجَ من الْعُمْرَانِ حتى صَارَ مُسَافِرًا تَجِبُ عليه صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ إنْ كان الْوَقْتُ فَاضِلًا على الْأَدَاءِ يَجِبُ عليه أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذلك بِفِعْلِهِ وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ بِالْفِعْلِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ يَتَعَيَّنُ آخِرَ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ تَعْيِينِهِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا وَكَذَا إذَا لم يَكُنْ الْوَقْتُ فَاضِلًا على الْأَدَاءِ وَلَكِنَّهُ يَسَعُ لِلرَّكْعَتَيْنِ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ‏.‏

ويبني على هذا الْأَصْلِ الطَّاهِرَةُ إذَا حَاضَتْ في آخِرِ الْوَقْتِ أو نَفِسَتْ وَالْعَاقِلُ إذَا جُنَّ أو أغمى عليه وَالْمُسْلِمُ إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وقد بَقِيَ من الْوَقْتِ ما يَسَعُ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ في آخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا إذَا لم يُوجَدْ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فيه لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ على غَيْرِ الْأَهْلِ ولم يُوجَدْ وَعِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ في أَوَّلِهِ وَدَلَائِلُ هذا الْأَصْلِ تُعْرَفُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَوْ صلى الصَّبِيُّ الْفَرْضَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يُجْزِيهِ عن حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَجْهُ قَوْلِهِ إن عَدَمَ الْوُجُوبِ عليه كان نَظَرًا له وَالنَّظَرُ له هُنَا الوجوب ‏[‏للوجوب‏]‏ كيلا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ صَحَّتْ منه نَظَرًا له وهو الثَّوَابُ وَلَا ضَرَرَ فيه لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِالْمِيرَاثِ إنْ لم يَزُلْ بِالْوَصِيَّةِ

وَلَنَا أَنَّ في نَفْسِ الْوُجُوبِ ضَرَرًا فَلَا يَثْبُتُ مع الصَّبِيِّ كما لو لم يَبْلُغْ فيه وَإِنَّمَا انْقَلَبَ نَفْعًا بحالة ‏[‏لحالة‏]‏ اتَّفَقَتْ وَهِيَ الْبُلُوغُ فيه وإنه نَادِرٌ فَبَقِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ نَفْعٌ في الْأَصْلِ الْمُسْلِمُ إذَا صلى ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ في الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إعَادَةَ عليه وَعَلَى هذا الْحَجُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏ عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ على الرِّدَّةِ دُونَ نَفْسِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ حَصَلَتْ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقُرْبَةِ فَلَا يُبْطِلُهَا كما لو تَيَمَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ‏.‏

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِنَفْسِ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ من عَلَّقَ حُكْمًا بِشَرْطَيْنِ وَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من التَّعْلِيقَيْنِ وَيَنْزِلُ عِنْدَ أَيِّهِمَا وُجِدَ كَمَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت حَرٌّ إذَا جاء يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ قال له أنت حَرٌّ إذَا جاء يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْطُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَلْ إذَا جاء يَوْمُ الْخَمِيسِ عَتَقَ وَلَوْ كان بَاعَهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ولم يَكُنْ في مِلْكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وهو في مِلْكِهِ عَتَقَ بِالتَّعْلِيقِ الْآخَرِ وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ ليس بِعِبَادَةٍ وَإِنَّمَا هو طَهَارَةٌ وَأَثَرُ الرِّدَّةِ في إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مع الْكُفْرِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُهَا لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا على الْإِسْلَامِ فَبَقِيَتْ الْحَاجَةُ على ما ذَكَرْنَا في فصل التَّيَمُّمِ‏.‏وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فبناه ‏[‏فبناء‏]‏ على أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بين أَصْحَابِنَا وهو مِقْدَارُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ في آخِرِ الْوَقْتِ‏.‏

قال الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا أن الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ وقال زُفَرُ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يؤدي فيه الْفَرْضُ وهو اخْتِيَارُ الْقُدُورِيُّ وبنى على هذا الْأَصْلِ الْحَائِضُ إذَا طَهُرَتْ في آخِرِ الْوَقْتِ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عليه وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أو سَافَرَ الْمُقِيمُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكتاب فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ من أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يتعين ‏[‏يتغير‏]‏ إلَّا إذَا بَقِيَ من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يُمْكِنُ فيه الْأَدَاءُ وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ يَجِبُ الْفَرْضُ ويتعين ‏[‏ويتغير‏]‏ ‏(‏الْأَدَاءُ‏)‏ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ وَأَدَاءُ كل الْفَرْضِ في هذا الْقَدْرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَاسْتَحَالَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ على الْمُكَلَّفِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا على ما مَرَّ فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ فِعْلًا بِالْأَدَاءِ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِلْبَعْضِ وَجَبَ تَعْيِينُهُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ لِأَنَّ تَعْيِينَ كل الْوَقْتِ لِكُلِّ الْعِبَادَةِ تَعْيِينُ كل أَجْزَائِهِ لِكُلِّ أَجْزَائِهَا ضَرُورَةً وفي تَعْيِينِ جُزْءٍ من الْوَقْتِ لِجُزْءٍ من الصَّلَاةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتَجَزَّأُ فإذا وَجَبَ الْبَعْضُ فيه وَجَبَ الْكُلُّ فِيمَا يَتَعَقَّبُهُ من الْوَقْتِ إنْ كان لَا يَتَعَقَّبُهُ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ وَإِنْ تَعَقَّبَهُ يَجِبُ الْكُلُّ ليؤدي في وَقْتٍ آخَرَ وإذا لم يَبْقَ من الْوَقْتِ إلَّا قَدْرُ ما يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَ تَحْصِيلُ التَّحْرِيمَةِ ثُمَّ تَجِبُ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّحْرِيمَةِ فَيُؤَدِّيهَا في الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْفَجْرِ وفي الْفَجْرِ يُؤَدِّيهَا في وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ على التَّدْرِيجِ الذي ذَكَرْنَا قد تَقَرَّرَ وقد عَجَزَ عن الْأَدَاءِ فَيَقْضِي وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ من يَوْمِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذلك الْيَوْمِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَقْتَ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ فَكُلُّ جُزْءٍ منه على الْإِطْلَاقِ لَا يَصْلُحُ لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الْعِبَادَةِ بَلْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الْوَقْتِ مُتَعَيَّنٌ لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الْعِبَادَةِ ثُمَّ الثَّانِي منه لِلثَّانِي منها، َالثَّالِثُ لِلثَّالِثِ وَهَكَذَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الوقت ‏[‏العبادة‏]‏ في الْجُزْءِ الثَّانِي أو الْخَامِسِ من الْوَقْتِ وَلَا الْجُزْءِ الْخَامِسِ من الْعِبَادَةِ من الْجُزْءِ السَّادِسِ من الْوَقْتِ فإذا فَاتَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الْوَقْتِ وهو ليس بِأَهْلٍ فلم يَجِبْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الْعِبَادَةِ لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ على غَيْرِ الْأَهْلِ فَبَعْدَ ذلك وَإِنْ أَسْلَمَ في الْجُزْءِ الثَّانِي أو الْعَاشِرِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الصَّوْمِ في ذلك الْجُزْءِ من الْوَقْتِ لِأَنَّهُ ليس بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِهِ فيه وَلِأَنَّ وُجُوبَ كل جُزْءٍ من الصَّوْمِ في جُزْءٍ من الْوَقْتِ وهو مَحَلُّ أَدَائِهِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي من الصوم ‏[‏اليوم‏]‏ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ من الْعِبَادَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْآخَرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَلَا أَدَاءً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ جُزْءٍ مُطْلَقٍ من الْوَقْتِ يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ فيه الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من الصَّلَاةِ إذْ التَّحْرِيمَةُ منها في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّ الْوَقْتَ ليس بِمِعْيَارٍ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَالله أعلم‏.‏ ‏[‏الموفق‏]‏‏.‏

ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ في حَقِّ الْحَائِضِ إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا فَأَمَّا إذَا كانت أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عليها الصَّلَاةُ إذَا طَهُرَتْ وَعَلَيْهَا من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما تَغْتَسِلُ فيه فَإِنْ كان عليها من الْوَقْتِ ما لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِلَ فيه أو لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ فَلَيْسَ عليها تِلْكَ الصَّلَاةُ حتى لَا يَجِبَ عليها الْقَضَاءُ وَالْفَرْقُ أَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كانت أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لَا يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا من الْحَيْضِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ ما لم تَغْتَسِلْ أو يَمْضِي عليها وَقْتُ صَلَاةٍ تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلَاةُ دَيْنًا عليها وإذا كانت أَيَّامُهَا عَشَرَةً بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا عن الْحَيْضِ فإذا أَدْرَكَتْ جُزْءًا من الْوَقْتِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَتْ من الِاغْتِسَالِ أو لم تَتَمَكَّنْ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ أَسْلَمَ وهو جُنُبٌ أو صَبِيٍّ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ في آخِرِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَ من الِاغْتِسَالِ في الْوَقْتِ أو لم يَتَمَكَّنْ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَ هو خُرُوجُ اللوث ‏[‏الدم‏]‏ في وَقْتٍ مُعْتَادٍ فإذا انْقَطَعَ اللوث ‏[‏الدم‏]‏ كان يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ما انْعَدَمَ حَقِيقَةً انْعَدَمَ حُكْمًا إلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِخُرُوجِهَا من الْحَيْضِ ما لم تَغْتَسِلْ إذَا كانت أَيَّامُهَا أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قال الشَّعْبِيُّ حدثني بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا من الصَّحَابَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا ما لم تَغْتَسِلْ‏.‏وكان الْمَعْنَى في ذلك أَنَّ نَفْسَ الِانْقِطَاعِ ليس بِدَلِيلٍ على الطَّهَارَةِ لِأَنَّ ذلك كَثِيرًا ما يَتَخَلَّلُ في زَمَانِ الْحَيْضِ فَشُرِطَتْ زِيَادَةُ شَيْءٍ له أَثَرٌ في التَّطْهِيرِ وهو الِاغْتِسَالُ أو وُجُوبُ الصَّلَاةِ عليها لِأَنَّهُ من أَحْكَامِ الطُّهْرِ بِخِلَافِ ما إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِجْمَاعَ وَمِثْلَ هذا الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ مُنْعَدِمَانِ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ قد قام لنا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ على الْعَشَرَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تستقصي في كتاب الْحَيْضِ وَهَلْ يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قربانها ‏[‏قرانها‏]‏ قبل الِاغْتِسَالِ إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُبَاحُ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُبَاحُ ما لم تَغْتَسِلْ‏.‏

وإذا كانت أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا قبل الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ وإذا مَضَى عليها وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ لم تَغْتَسِلْ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما يُعْرَفُ في كتاب الْحَيْضِ إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل بيانِ ما يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا فَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِوُجُودِ الْإِقَامَةِ وَالْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا صَرِيحُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وهو أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ من أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِقَامَةِ أَمَّا نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فَأَمْرٌ لَا بُدَّ منه عِنْدَنَا حتى لو دخل مصر ‏[‏مصرا‏]‏ أو ‏[‏ومكث‏]‏ مكث فيه شَهْرًا أو أَكْثَرَ لِانْتِظَارِ الْقَافِلَةِ أو لِحَاجَةٍ أُخْرَى يقول أَخْرُجُ الْيَوْمَ أو غَدًا ولم يَنْوِ الْإِقَامَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَامَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ كان مُقِيمًا وَإِنْ لم يَنْوِ الْإِقَامَةَ وَرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أو عِشْرِينَ يَوْمًا وفي قَوْلٍ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ كان مُقِيمًا وَلَا يُبَاحُ له الْقَصْرُ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ إن الْإِقَامَةَ مَتَى وُجِدَتْ حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ الصَّلَاةُ قَلَّتْ الْإِقَامَةُ أو كَثُرَتْ لِأَنَّهَا ضِدُّ السَّفَرِ وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمَا يُضَادُّهُ إلَّا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَصَرَ الصَّلَاةَ فَتَرَكْنَا هذا الْقَدْرَ بِالنَّصِّ فَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ على النَّحْوِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَبْطُلَ السَّفَرُ بِقَلِيلِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالسَّفَرُ انْتِقَالٌ وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ بِمَا يُضَادُّهُ فَيَنْعَدِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْإِقَامَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو عن ذلك عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْكَثِيرِ وَالْأَرْبَعَةُ في حَدِّ الْكَثْرَةِ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَثِيرِ أَنْ يَكُونُ جَمْعًا وَالثَّلَاثَةُ وَإِنْ كانت جَمْعًا لَكِنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَكَانَتْ في حَدِّ الْقِلَّةِ من وَجْهٍ فلم تَثْبُتْ الْكَثْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فإذا صَارَتْ أَرْبَعَةً صَارَتْ في حَدِّ الْكَثْرَةِ على الْإِطْلَاقِ لِزَوَالِ مَعْنَى الْقِلَّةِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ من قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وكان يَقْصُرُ الصَّلَاةَ‏.‏

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وكان يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وكان يَقْصُرُ وَرُوِيَ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال شَهِدْتُ مع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قال لِأَهْلِ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَالْقِيَاسُ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ وَأَمَّا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَحُجَّتُهُمَا ما ذَكَرْنَا وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ على الثَّلَاثِ تُوجِبُ حُكْمَ الْإِقَامَةِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا إذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وفي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فاقصر وَهَذَا باب لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ من جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا فَالظَّاهِرُ إنهما سَمَاعًا عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وَرَوَى عبد اللَّهِ بن عباسث ‏[‏عباس‏]‏ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مع أَصْحَابِهِ دَخَلُوا مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ من ذِي الْحِجَّةِ وَمَكَثُوا ذلك الْيَوْمَ وَالْيَوْمَ الْخَامِسَ وَالْيَوْمَ السَّادِسَ وَالْيَوْمَ السَّابِعَ فلما كان صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الثَّامِنِ وهو يَوْمُ التَّرْوِيَةِ خَرَجُوا إلَى مِنًى وكان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ وقد وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ على إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ دَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَرْبَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ وما رُوِيَ من الحديث فَلَيْسَ فيه ما يُشِيرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ تَرْتَفِعُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ فَرَخَّصَ بِالْمُقَامِ ثَلَاثًا لِهَذَا لَا لِتَقْدِيرِ الْإِقَامَةِ وَأَمَّا اتِّحَادُ الْمَكَانِ فَالشَّرْطُ نِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ في مَكَان وَاحِدٍ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالُ يُضَادُّهُ وَلَا بُدَّ من الِانْتِقَالِ في مَكَانَيْنِ وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في مَوْضِعَيْنِ فَإِنْ كانا مِصْرًا وَاحِدًا أو قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا‏.‏

أَلَا ترى ‏[‏يرى‏]‏ أَنَّهُ لو خَرَجَ إلَيْهِ مُسَافِرًا لم يَقْصُرْ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وهو نِيَّةُ كَمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ في مَكَان وَاحِدٍ فَصَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نحو مَكَّةَ وَمِنًى أو الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أو قَرْيَتَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مِصْرٌ وَالْآخَرُ قَرْيَةٌ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو خَرَجَ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ يَقْصُرُ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ وهو نِيَّةُ الْإِقَامَةِ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَغَتْ نِيَّتُهُ فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ في أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَإِنْ دخل أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الذي نَوَى الْمُقَامَ فيه بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا وَإِنْ دخل الْمَوْضِعَ الذي نَوَى الْإِقَامَةَ فيه بِاللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُقِيمًا ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرجل ‏[‏الرحل‏]‏ حَيْثُ يَبِيتُ فيه‏.‏

أَلَا تَرَى إنه إذَا قِيلَ لِلسُّوقِيِّ أَيْنَ تَسْكُنُ يقول في مَحَلَّةِ كَذَا وهو بِالنَّهَارِ يَكُونُ بِالسُّوقِ وَذُكِرَ في كتاب الْمَنَاسِكِ أَنَّ الْحَاجَّ إذَا دخل مَكَّةَ في أَيَّامِ الْعَشْرِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أو دخل قبل أَيَّامِ الْعَشْرِ لَكِنْ بَقِيَ إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَقَلُّ من خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّةُ إقَامَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَصِحُّ وَقِيلَ كان سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بن أَبَانَ هذه الْمَسْأَلَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ كان مَشْغُولًا بِطَلَبِ الحديث قال فَدَخَلْتُ مَكَّةَ في أَوَّلِ الْعَشْرِ من ذِي الْحِجَّةِ مع صَاحِبٍ لي وَعَزَمْتُ على الْإِقَامَةِ شَهْرًا فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ فقال أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ فلما رَجَعْتُ من مِنًى بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ على أَنْ أُصَاحِبَهُ وَجَعَلْتُ أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فقال لي صَاحِبُ أبي حَنِيفَةَ أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ فما لم تَخْرُجْ منها لَا تَصِيرُ مُسَافِرًا فَقُلْت أَخْطَأْتُ في مَسْأَلَةٍ في مَوْضِعَيْنِ فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ وَاشْتَغَلْتُ بِالْفِقْهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هذه الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ مَبْلَغُ عِلْمِ الْفِقْهِ فَيَصِيرُ مبعثه لِلطَّلَبَةِ على طَلَبِهِ وَأَمَّا الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ في الْعَادَةِ نَحْوُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ حتى لو نَوَى الْإِقَامَةَ في هذه الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ في مَوْضِعٍ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هذا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فيه خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كما في الْقَرْيَةِ وَرُوِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُمْ لم يَصِيرُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هذا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فيه لَا يَصِحُّ ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ في الْعُيُونِ فَصَارَ الْحَاصِلُ إن عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا في الْمَفَازَةِ وَإِنْ كان ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذلك الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ

وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَعَلَى هذا الْإِمَامُ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ مع الْجُنْدِ وَمَعَهُمْ أَخْبِيَةٌ وَفَسَاطِيطُ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في الْمَفَازَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ في الْأَصْلِ فَكَانَتْ النِّيَّةُ لَغْوًا وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً من مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ على إقَامَةِ خمسة ‏[‏خمس‏]‏ عَشَرَ يَوْمًا لم تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَيَقْصُرُونَ وَكَذَا إذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا في الْحِصْنِ‏.‏

وقال أبو يُوسُفَ إنْ كَانُوا في الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا في الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ وقال زُفَرُ في الْفصليْنِ جميعا إنْ كانت الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ وَإِنْ كانت لِلْعَدُوِّ لم تَصِحَّ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الشَّوْكَةَ إذَا كانت لِلْمُسْلِمِينَ يَقَعُ الْأَمْنُ لهم من إزْعَاجِ الْعَدُوِّ إيَّاهُمْ فَيُمْكِنَهُمْ الْقَرَارُ ظَاهِرًا فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ صَادَفَتْ مَحَلِّهَا فَصَحَّتْ وأبو يُوسُفَ يقول الأبنية مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فيها بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وقال إنَّا نُطِيلُ الثَّوَاءَ في أَرْضِ الْحَرْبِ فقال صَلِّ رَكْعَتَيْنِ حتى تَرْجِعَ إلَى أَهْلِكَ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْقَرَارِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ في مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلْقَرَارِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَوْضِعَ قَرَارِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَارِبِينَ لِجَوَازِ أَنْ يُزْعِجَهُمْ الْعَدُوُّ سَاعَةً فَسَاعَةً لِقُوَّةٍ تَظْهَرُ لهم لِأَنَّ الْقِتَالَ سِجَالٌ أو تَنْفُذُ لهم في الْمُسْلِمِينَ حِيلَةٌ لِأَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ فلم تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ من الْمُكْثِ هُنَالِكَ فَتْحُ الْحِصْنِ دُونَ التَّوَطُّنِ وَتَوَهُّمُ انْفِتَاحِ الْحِصْنِ في كل سَاعَةٍ قَائِمٌ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّتُهُمْ إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَا وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الْعَدْلِ الْبُغَاةَ في دَارِ الْإِسْلَامِ في غَيْرِ مِصْرٍ أو حَاصَرُوهُمْ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ في الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ في بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ‏.‏

قال بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُونَ مُقِيمِينَ أَبَدًا وَإِنْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْإِقَامَةُ في الْمَفَاوِزِ دُونَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى فَكَانَتْ الْمَفَاوِزُ لهم كَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَهْلِهَا وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلرَّجُلِ أَصْلٌ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ وَهُمْ لَا يَنْوُونَ السَّفَرَ بَلْ يَنْتَقِلُونَ من مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى حتى لو ارْتَحَلُوا عن أَمَاكِنِهِمْ وَقَصَدُوا مَوْضِعًا آخَرَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ صَارُوا مُسَافِرِينَ في الطَّرِيق‏.‏

ثُمَّ الْمُسَافِرُ كما يَصِيرُ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ في مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا خَارِجَ الصَّلَاةِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِهِ في الصَّلَاةِ حتى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ في الْحَالَيْنِ جميعا سَوَاءً نَوَى الْإِقَامَةَ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ أو ‏(‏في وَسَطِهَا أو‏)‏ في آخِرِهَا بَعْدَ أَنْ كان شَيْءٌ من الْوَقْتِ بَاقِيًا وَإِنْ قَلَّ وَسَوَاءً كان الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا مَسْبُوقًا أو مُدْرِكًا إلَّا إذَا أَحْدَثَ الْمُدْرِكُ أو نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَوَضَّأَ أو انْتَبَهَ بَعْدَ ما فَرَغَ الْإِمَامُ من الصَّلَاةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ فإنه لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الِاسْتِقْرَارِ وَالصَّلَاةُ لَا تُنَافِي نِيَّةَ الِاسْتِقْرَارِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فيها فإذا كان الْوَقْتُ بَاقِيًا وَالْفَرْضُ لم يُؤَدَّ بَعْدُ كان مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَيَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْمُغَيَّرِ وهو نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وإذا خَرَجَ الْوَقْتُ أو أدى الْفَرْضُ لم يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَلَا يَعْمَلُ الْمُغَيَّرُ فيه وَالْمُدْرِكُ الذي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أو أَحْدَثَ وَذَهَبَ لِلْوُضُوءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ الْفَرْضُ ولم يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ في حَقِّهِ فَكَذَا في حَقِّ اللَّاحِقِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا صلى الْمُسَافِرُ رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ في الْوَقْتِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ ‏(‏في الْوَقْتِ‏)‏ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ وَكَذَا لو نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ ما صلى رَكْعَةً ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وهو في الصَّلَاةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ لِأَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ قد تَقَرَّرَ عليه بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بَعْدَ ذلك وَلَوْ صلى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ‏(‏ولم يُسَلِّمْ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا‏)‏‏.‏

‏(‏وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ‏)‏ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن الْمَكْتُوبَةِ بَعْدُ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ لِأَنَّ ذلك نَفْلٌ فَلَا يَنُوبُ عن الْفَرْضِ وهو بِالْخِيَارِ في الشَّفْعِ الْأَخِيرِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ قد اسْتَحْكَمَ بِخُرُوجِهِ منه فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِتَكُونَ الرَّكْعَتَانِ له تَطَوُّعًا لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَتْرَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏

وَلَوْ أَفْسَدَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ فَفَرْضُهُ تَامٌّ وَلَيْسَ عليه قَضَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً على مَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ هذا إذَا قَعَدَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لم يُقِمْ صُلْبَهُ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ وَإِنْ أَقَامَ صُلْبَهُ لَا يَعُودُ كَالْمُقِيمِ إذَا قام ‏[‏أقام‏]‏ من ‏(‏الثانية ‏[‏الثالثة‏]‏ إلَى الثالثة ‏[‏الرابعة‏]‏‏)‏ وهو في الْقِرَاءَةِ في الشَّفْعِ الْأَخِيرِ بِالْخِيَارِ وَكَذَا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ ولم يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حتى لو نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ في حَقِّ هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا قد فَسَدَتْ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ تَمَّ شُرُوعُهُ في النَّفْلِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أو بِتَمَامِ فِعْلِ النَّفْلِ وَتَمَامُ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً بِدُونِهِ وإذا صَارَ شَارِعًا في النَّفْلِ صَارَ خَارِجًا عن الْفَرْضِ ضَرُورَةً لَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الأربع ‏[‏الأرجح‏]‏ له تَطَوُّعًا لِأَنَّ التنقل ‏[‏التنفل‏]‏ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ‏.‏

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ارْتَفَعَتْ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهُ تَطَوُّعًا مُسَافِرٌ صلى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الرَّكْعَتَيْنِ أو في وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قبل أَنْ يُسَلِّمَ أو قام إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قبل أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَقْرَأُ في الْأَخِيرَتَيْنِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ وعند ‏[‏وتفسد‏]‏ مُحَمَّدٍ تفسد صلاته وَلَوْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الرَّكْعَتَانِ له تَطَوُّعًا على قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ على ما مَرَّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ ثُمَّ الْفَجْرُ في حَقِّ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أو في إحْدَاهُمَا على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ إلَّا ِالِاسْتِقْبَالِ فَكَذَا الظُّهْرُ في حَقِّ الْمُسَافِرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ في رَفْعِ صِفَةِ الْفَسَادِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُفْسِدَ لم يَتَقَرَّرْ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ خُلُوُّ الصَّلَاةِ عن الْقِرَاءَةِ في رَكْعَتَيْنِ منها وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بعرض ‏[‏بغرض‏]‏ أَنْ يَلْحَقَهَا مُدَّةُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ الْفَجْرِ في حَقِّ الْمُقِيمِ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ إذْ ليس لها هذه الْعَرَضِيَّةُ وَكَذَا إذَا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ‏.‏

وَلَوْ قَرَأَ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وسلم وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ لم يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَسَقَطَ عنه السَّهْوُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ في آخِرِ الصَّلَاةِ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ في نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِسَهْوِهِ أو سجدها ‏[‏سجدهما‏]‏ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِالْإِجْمَاعِ وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ في آخِرِ الصَّلَاةِ وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قبل السَّلَامِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَهَذَا الِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ من عليه سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ يَخْرُجُ من الصَّلَاةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خُرُوجًا مَوْقُوفًا إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان لم يَخْرُجْ وَإِنْ لم يَعُدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان خَرَجَ حتى لو ضَحِكَ بَعْدَمَا سَلَّمَ قبل أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ سَلَامُهُ لَا يُخْرِجُهُ عن حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَصْلًا حتى لو ضَحِكَ قَهْقَهَةً بَعْدَ السَّلَامِ قبل الِاشْتِغَالِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ من عليه سَجْدَتَا السهود ‏[‏السهو‏]‏ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا شُرِعَتَا لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَإِنَّمَا يَنْجَبِرَانِ لو حَصَلَتَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ما يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ‏.‏

وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هذا السَّلَامِ فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ في هذه الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كانت التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلِّلًا في الشَّرْعِ قال النبي صلى الله عليه وسلم وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ما يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ القوم ‏[‏للقوم‏]‏ فَكَانَ من كَلَامِ الناس وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ غير أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ في هذه الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ فلا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ في التَّحْرِيمَةِ لِيُلْحِقَ الْجَابِرَ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ بِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيَنْجَبِرَ النُّقْصَانُ فَبَقَّيْنَا التَّحْرِيمَةَ مع وُجُودِ الْمُنَافِي لها لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إبْقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ وَإِنْ لم يَشْتَغِلْ لم تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ فَعَمَلَ السَّلَامُ في الْإِخْرَاجِ عن الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِ التَّحْرِيمَةِ وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ كما لو نَوَى الْإِقَامَةَ قبل السَّلَامِ أو بَعْدَ ما عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا وَالتَّحْرِيمَةُ مُنْقَطِعَةٌ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مع وُجُودِ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَالْعَوْدُ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ هَهُنَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لو صَحَّ لَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كانت بَاقِيَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ فرضا ‏[‏فرضه‏]‏ صَارَ أَرْبَعًا وَهَذَا وَسَطُ الصَّلَاةِ‏.‏

وَالِاشْتِغَالُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا آخِرُ الصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ في التَّوَقُّفِ هَهُنَا فَلَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ في هذه الْحَالَةِ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَوْقُوفٌ إنْ اشْتَغَلَ بِالسَّجْدَتَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان صَحِيحًا وَإِنْ لم يَشْتَغِلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ هُنَاكَ مُفِيدٌ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ صَحِيحٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي لهذه ‏[‏للضرورة‏]‏ الضرورة وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ بِخِلَافِ ما إذَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ أو سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ جميعا حَيْثُ يَصِحُّ وَإِنْ كان يُؤَدِّي إلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا لِحُصُولِهِمَا في وَسَطِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ صَحَّ اشْتِغَالُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كانت بَاقِيَةً فَوُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وإذا تَغَيَّرَ أَرْبَعًا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّجْدَةَ حَصَلَتْ في وَسَطِ الصَّلَاةِ فَيَبْطُلُ اعْتِبَارُهَا وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أنها ما كانت مُعْتَبَرَةً مُعْتَدًّا بها حين حَصَلَتْ بَلْ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بَعْدَ ذلك وَقْتَ حُصُولِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ مُقْتَصِرًا على الْحَالِ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فيه فَبِخِلَافِهِ وَفَرْقٌ بين ما انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ انْفَسَخَ بِمَعْنًى يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَبَيْنَ ما لم يَنْعَقِدْ من الْأَصْلِ لِأَنَّ في الْأَوَّلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْعِقَادِهِ وَانْتَفَى بَعْدَ انْفِسَاخِهِ وفي الثَّانِي لم يَثْبُتْ الْحُكْمُ أَصْلًا نَظِيرُهُ من اشْتَرَى دَارًا فَوَجَدَ بها عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي حتى انْفَسَخَ الْبَيْعُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ الذي كان ثَبَتَ بِالْبَيْعِ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ كان حُرًّا ظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لم يَكُنْ ثَابِتًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ ما كان مُنْعَقِدًا وفي باب الْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ فَكَذَا هَهُنَا وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ في آخِرِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ‏(‏لِأَنَّهُ شُرِعَ‏)‏ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا قبل السَّلَامِ فَفِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى فَيُعَادُ لِتَحْقِيقِ ما شُرِعَ له وَبِخِلَافِ ما إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قبل السَّلَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ بِيَقِينٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا تَوَقُّفَ في الْخُرُوجِ عن التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا بَلْ يَخْرُجُ جَزْمًا من غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ في عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يَعُودُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ وما ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ في بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَبُطْلَانِهَا أَصَحُّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالْإِعَادَةِ ولم تُوجَدْ وَالله أعلم‏.‏

وَالثَّانِي وُجُودُ الْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وهو أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ مَوْلَاهُ وَالْمَرْأَةِ بِإِقَامَةِ زَوْجِهَا وَالْجَيْشِ بِإِقَامَةِ الْأَمِيرِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْحُكْمَ في التَّبَعِ ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا تُرَاعَى له عِلَّةٌ على حِدَةٍ لِمَا فيه من جَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا وإنه قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا الْغَرِيمُ مع صَاحِبِ الدَّيْنِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في السَّفَرِ إنه إنْ كان الْمَدْيُونُ مَلِيًّا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا يَصِيرُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كان مُفْلِسًا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ لِأَنَّ له حَقَّ مُلَازَمَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَ الدَّيْنِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ‏.‏

ثُمَّ في هذه الْفُصُولِ إنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا لم يَعْلَمْ فَلَا حتى لو صلى التَّبَعُ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ قبل الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ فإن صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَتُهَا وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ عليه الْإِعَادَةَ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ في اللُّزُومِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ ضَرَرًا في حَقِّهِ وَحَرَجًا وَلِهَذَا لم يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كَذَا هذا وَعَلَى هذا يُبْنَى أَيْضًا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ في الْوَقْتِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُ الناس لَا يَنْقَلِبُ وقال مَالِكٌ إنْ أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ رَكْعَةً فَصَاعِدًا يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَإِنْ أَدْرَكَ ما دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَنْقَلِبُ بِأَنْ اقْتَدَى بِهِ في السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ أو بَعْدَ ما رَفَعَ رَأْسَهُ منها وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا له لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عليه قال إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه وَالْأَدَاءُ أَعْنِي الصَّلَاةَ في الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إلَى الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ في الْوَقْتِ وقد وُجِدَ هَهُنَا دَلِيلُ التَّغْيِيرِ وهو التَّبَعِيَّةُ فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَصَارَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ من باب الْقَضَاءِ وإنه خَلَفٌ عن الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ لم يَتَغَيَّرْ لِعَدَمِ دَلِيلِ التَّغْيِيرِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وإذا لم يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ بِالِاقْتِدَاءِ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ رَكْعَتَيْنِ وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ في حَقِّهِ نَفْلٌ في حَقِّ الْإِمَامِ فَلَوْ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ كان هذا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في حَقِّ الْقَعْدَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ في رُكْنٍ منها وما ذَكَرَهُ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فَوُجُودُ الْمُغَيِّرِ في جُزْئِهَا كَوُجُودِهِ في كُلِّهَا وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صلى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ فلما قام إلَى الثَّالِثَةِ جاء مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عليه في الرَّكْعَتَيْنِ نَفْلٌ في حَقِّ الْمُقِيمِ في الْأَخِيرَتَيْنِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بالمتنقل ‏[‏بالمتنفل‏]‏ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ

فَإِنْ صَلَّاهُمَا بغيرقراءة وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ في الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ في الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ في حَقِّهِ نَفْلٌ في حَقِّ الْمُقْتَدِي وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ في كل الصلاة ‏[‏صلاة‏]‏ فَكَذَا في بَعْضِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ لِأَنَّهُ قد بَقِيَ عليه شطر ‏[‏شرط‏]‏ الصَّلَاةِ فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا لِقَوْلِهِ أَتِمُّوا يا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ الْمُسَافِرِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُقِيمِينَ

خَلْفَهُ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ اقْتِدَاءً بِالنبي صلى الله عليه وسلم وَلَا قِرَاءَةَ على الْمُقْتَدِي في بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ إذَا كان مُدْرِكًا أَيْ لَا يَجِبُ عليه لِأَنَّهُ شَفْعٌ أَخِيرٌ في حَقِّهِ

وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال ذُكِرَ في الْأَصْلِ ما يَدُلُّ على وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فإنه قال إذَا سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السهود ‏[‏السهو‏]‏ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ إلَى الْعَكْسِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِالْمُنْفَرِدِ في حَقِّ السَّهْوِ فَكَذَا في حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَلَا قِرَاءَةَ على الْمُنْفَرِدِ في الشَّفْعِ الْأَخِيرِ ثُمَّ الْمُقِيمُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فصلاةُ الْإِمَامِ منهم تَامَّةٌ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا في مَوْضِعٍ يَجِبُ عليهم الِانْفِرَادُ وَلَوْ قام الْمُقِيمُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ قبل التَّسْلِيمِ يُنْظَرُ إنْ لم يُقَيِّدْ هذا الْمُقِيمُ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رَفَضَ ذلك وَتَابَعَ إمَامَهُ حتى لو لم يَرْفُضْ وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ صَلَاتَهُ صَارَتْ أَرْبَعًا تَبَعًا لِإِمَامِهِ لِأَنَّهُ ما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَخْرُجُ عن صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ لِأَنَّهُ وُجِدَ على وَجْهِ النَّفْلِ فَلَا يَنُوبُ عن الْفَرْضِ‏.‏

وَلَوْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ حتى لو رَفَضَ ذلك وَتَابَعَ الْإِمَامَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ اقْتَدَى في مَوْضِعٍ يَجِبُ عليه الِانْفِرَادُ وَالله أعلم‏.‏

وَعَلَى هذا إذَا اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ في الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَبْطُلُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِنْ كان لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ في خَارِجِ الْوَقْتِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَصَارَ تَبَعًا له صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُقِيمِينَ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الرَّكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ وَهَذَا قد صَارَ مُقِيمًا وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كما إذَا صَارَ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَلَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ انْتَبَهَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ الْمُدْرِكَ يُصَلِّي ما نَامَ عنه كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وقد انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُقْتَدِيًا بِهِ على ما مَرَّ وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أو قبل خُرُوجِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ على ما مَرَّ وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ في الْوَقْتِ فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا من الْمُقِيمِينَ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا تَنْقَلِبُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ أَرْبَعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُقِيمِ حتى تُعَلَّقَ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ صِحَّةً وَفَسَادًا وَالْمُسَافِرُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا كما لو اقْتَدَى بِهِ ابْتِدَاءً وَلِأَنَّ فَرْضَهُمْ لو لم يَنْقَلِبْ أَرْبَعًا لَمَا جَازَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى في حَقِّ الْإِمَامِ نَفْلٌ وفي حَقِّ الْمُسَافِرِينَ فَرْضٌ فَيَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ في حَقِّ الْقَعْدَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ وَلَنَا أَنَّ الْمُقِيمَ إنَّمَا صَارَ إمَامًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عن الْإِتْمَامِ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَهُ في مِقْدَارِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذْ الْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هو فَكَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُسَافِرِ مَعْنًى فَلِذَلِكَ لَا تَنْقَلِبُ صَلَاتُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عليه فَرْضًا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسَافِرِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ‏.‏

وَعَلَى هذا لو قُدِّمَ مُسَافِرٌ فَنَوَى الْمُقَدَّمُ الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ لِمَا قُلْنَا وإذا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَيَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَا يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بَقِيَ عليه شَطْرُ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالسَّلَامِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ رَجُلًا من الْمُسَافِرِينَ حتى يُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هو وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَيُصَلُّونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وُحْدَانًا لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ‏.‏

وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فصلاةُ الْإِمَامِ منهم تَامَّةٌ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ على كل حَالٍ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا ما هو فَرْضٌ عليهم وهو الِانْفِرَادُ في هذه الْحَالَةِ وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صلى بِمُسَافِرِينَ رَكْعَةً في الْوَقْتِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعًا لِأَنَّ الْإِمَامَ هَهُنَا أَصْلٌ وقد تَغَيَّرَتْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ وهو نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فَتَتَغَيَّرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ بِخِلَافِ الْفصل الْأَوَّلِ فإنه خَلَفَ عن الْإِمَامِ الْأَوَّلِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فلما صلى رَكْعَتَيْنِ وتشهد فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ من الْمُسَافِرِينَ خَلْفَهُ أو قام فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فإنه يَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لم يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ في مَحِلِّهِ وَصَلَاةُ من تَكَلَّمَ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ في وَقْتٍ لو تَكَلَّمَ فيه إمَامُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَكَذَا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كان بِمِثْلِ حَالِهِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ ما نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا تَبَعًا لِلْإِمَامِ فَحَصَلَ كَلَامُهُ في وَسَطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ فَسَادُهَا وَلَكِنْ يَجِبُ عليه صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا تَبَعًا وقد زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ فَعَادَ حُكْمُ الْمُسَافِرِينَ في حَقِّهِ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ الدُّخُولُ في الْوَطَنِ فَالْمُسَافِرُ إذَا دخل مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا سَوَاءٌ دَخَلَهَا لِلْإِقَامَةِ أو لِلِاجْتِيَازِ أو لِقَضَاءِ حَاجَةٍ وَالْخُرُوجِ بَعْدَ ذلك لِمَا روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ وَلِأَنَّ مِصْرَهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ وإذا قَرُبَ من مِصْرِهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ ما لم يَدْخُلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه حين قَدِمَ الْكُوفَةَ من الْبَصْرَةِ صلى صَلَاةَ السَّفَرِ وهو يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال لِلْمُسَافِرِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ما لم تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ وَلِأَنَّ هذا مَوْضِعٌ لو خَرَجَ إلَيْهِ على قَصْدِ السَّفَرِ يَصِيرُ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى وَذُكِرَ في الْعُيُونِ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكَافِرَ إذَا خَرَجَا إلَى السَّفَرِ فَبَقِيَ إلَى مَقْصِدِهِمَا أَقَلُّ من مُدَّةِ السَّفَرِ فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فإن الصَّبِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرَ الذي أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ السَّفَرِ صَحِيحٌ من الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي لِكُفْرِهِ فإذا أَسْلَمَ زَالَ الْمَانِعُ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَقَصْدُهُ السَّفَرَ لم يَصِحَّ وَحِينَ أَدْرَكَ لم يَبْقَ إلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ابْتِدَاءً وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ من قَدِمَ من السَّفَرِ فلما انْتَهَى قَرِيبًا من مِصْرِهِ قبل أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ في صَلَاتِهِ فلم يَجِدْ الْمَاءَ فَدَخَلَ الْمِصْرَ لِيَتَوَضَّأَ إنْ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا فَحِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ صَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كان مُقْتَدِيًا وهو مُدْرِكٌ فَإِنْ لم يَفْرُغْ الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعدما صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّهُ كأنه خَلْفَ الْإِمَامِ وَاللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مُقِيمًا فَكَذَا إذَا دخل مِصْرَهُ‏.‏

وَإِنْ كان فَرَغَ الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ حين انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ إقَامَتِهِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا بِالدُّخُولِ إلَى مِصْرِهِ وَكَذَا بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ في هذه الْحَالَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتَ بَاقٍ فَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلتَّغْيِيرِ فيتغير أَرْبَعًا وَلِأَنَّ هذا إنْ اُعْتُبِرَ بِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْمَسْبُوقِ يَتَغَيَّرْ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ اللَّاحِقَ ليس بِمُنْفَرِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عليه وَلَا سُجُودَ سهود ‏[‏سهو‏]‏ وَلَكِنَّهُ قَاضٍ مِثْلَ ما انْعَقَدَ له تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وَبِفَرَاغِ الْإِمَامِ فَاتَ الْأَدَاءُ معه فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْقَضَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأَصْلِ وهو صَلَاةُ الْإِمَامِ وقد خَرَجَ الْأَصْلُ عن احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ وَصَارَ مُقِيمًا على وَظِيفَةِ الْمُسَافِرِينَ وَلَوْ تَغَيَّرَ الْخَلَفُ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ من خَلْفَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لم يَفُتْهُ الْأَدَاءُ مع الْإِمَامِ فلم يَصِرْ قَضَاءً فَيَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ ما سُبِقَ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَلْتَزِمْ أَدَاءَهُ مع الْإِمَامِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَتَغَيَّرَ ثُمَّ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ مِصْرَهُ إذَا دَخَلَهُ في الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عليه فَرْضُ السَّفَرِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالدُّخُولِ في الْمِصْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَبِالْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالله أعلم‏.‏

مبحث في أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ

ثُمَّ الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ وهو وَطَنُ الْإِنْسَانِ في بَلْدَتِهِ أو بَلْدَةٍ أُخْرَى اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بها مع أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَلَيْسَ من قَصْدِهِ الِارْتِحَالُ عنها بَلْ التَّعَيُّشُ بها

وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ وهو أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْكُثَ في مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أو أَكْثَرَ وَوَطَنُ السُّكْنَى وهو أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ الْمُقَامَ في غَيْرِ بَلْدَتِهِ أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِي قَسَّمَ الْوَطَنَ إلَى قِسْمَيْنِ وَسَمَّى أَحَدَهُمَا وَطَنَ قَرَارٍ وَالْآخَرَ مُسْتَعَارًا فَالْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَنْتَقِضُ بمثله لَا غَيْرُ وهو أَنْ يَتَوَطَّنَ الْإِنْسَانُ في بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُلَ الْأَهْلَ إلَيْهَا من بَلْدَتِهِ فَيَخْرُجَ الْأَوَّلُ من أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا له حتى لو دخل فيه مُسَافِرًا لَا تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا وَأَصْلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ من الصحابة ‏[‏أصحابه‏]‏ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا من أَهْلِ مَكَّةَ وكان لهم بها أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا دَارًا لِأَنْفُسِهِمْ انْتَقَضَ وَطَنُهُمْ الْأَصْلِيُّ بِمَكَّةَ حتى كَانُوا إذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى بِهِمْ أَتِمُّوا يا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بمثله ثُمَّ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أو أَكْثَرَ من ذلك بِأَنْ كان له أَهْلٌ وَدَارٌ في بَلْدَتَيْنِ أو أَكْثَرَ ولم يَكُنْ من نِيَّةِ أَهْلِهِ الْخُرُوجُ منها وَإِنْ كان هو يَنْتَقِلُ من أَهْلٍ إلَى أَهْلٍ في السَّنَةِ حتى إنه لو خَرَجَ مُسَافِرًا من بَلْدَةٍ فيها أَهْلُهُ وَدَخَلَ في أَيِّ بَلْدَةٍ من الْبِلَادِ التي فيها أَهْلُهُ فَيَصِيرُ مُقِيمًا من غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَلَا يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ وَلَا بِوَطَنِ السُّكْنَى لِأَنَّهُمَا دُونَهُ وَالشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ بِمَا هو دُونَهُ وَكَذَا لَا يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ من وَطَنِهِ حتى يَصِيرَ مُقِيمًا بِالْعَوْدِ إلَيْهِ من غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَخْرُجُ من الْمَدِينَةِ مُسَافِرًا وكان وَطَنُهُ بها بَاقِيًا حتى يَعُودَ مُقِيمًا فيها من غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بمثله وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ أَيْضًا لِأَنَّ تَوَطُّنَهُ في هذا الْمَقَامِ ليس لِلْقَرَارِ وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ فإذا سَافَرَ منه يُسْتَدَلُّ بِهِ على قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَصَارَ مُعْرِضًا عن التَّوَطُّنِ بِهِ فَصَارَ نَاقِضًا له دَلَالَةً وَلَا يُنْتَقَضُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى لِأَنَّهُ دُونَهُ فَلَا يَنْسَخُهُ وَوَطَنُ السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّهُمَا فَوْقَهُ وَبِوَطَنِ السُّكْنَى لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَبِالسَّفَرِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من تَفْسِيرِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةٍ إنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إقَامَةٍ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بين وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَ هذا الْمَوْضِعِ الذي تَوَطَّنَ فيه بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَأَمَّا بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَصِيرُ وَطَنَ إقَامَةٍ وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا في مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ حتى إنَّ الرَّجُلَ الْمُقِيمَ إذَا خَرَجَ من مِصْرِهِ إلَى قَرْيَةٍ من قُرَاهَا لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ وَنَوَى أَنْ يَتَوَطَّنَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ له وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ سَفَرٍ لِانْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ‏.‏

وَكَذَا إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ وَخَرَجَ حتى وَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ مَسِيرَةُ ما دُونَ السَّفَرِ وَنَوَى أَنْ يُقِيمَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا وَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ له‏.‏ وفي رواية‏:‏ ابْنِ سِمَاعَةَ عنه يَصِيرُ مُقِيمًا من غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كما هو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ يُخَرَّجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ عليه حتى يَسْهُلَ تَخْرِيجُ الْبَاقِي خُرَاسَانِيٌّ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بها شَهْرًا ثُمَّ خَرَجَ منها إلَى الْحِيرَةِ وَنَوَى الْمُقَامَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ من الْحِيرَةِ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فإنه يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كان وَطَنَ إقَامَةٍ وقد انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِالْحِيرَةِ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ أَيْضًا وقد بَيَّنَّا أَنَّ وَطَنَ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بمثله وَكَذَا وَطَنُهُ بِالْحِيرَةِ اُنْتُقِضَ بِالسَّفَرِ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ فَكَمَا خَرَجَ من الْحِيرَةِ على قَصْدِ خُرَاسَانَ صَارَ مُسَافِرًا وَلَا وَطَنَ له في مَوْضِعٍ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حتى يَدْخُلَ بَلْدَتَهُ بِخُرَاسَانَ وَإِنْ لم يَكُنْ نَوَى الْمُقَامَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ لم يَبْطُلْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِيرَةِ لِأَنَّهُ ليس بِوَطَنٍ مثله وَلَا سَفَرٍ ويبقى ‏[‏فيبقى‏]‏ وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ كما كان وَلَوْ أَنَّ خُرَاسَانِيًّا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ ارْتَحَلَ منها يُرِيدُ مَكَّةَ فَقَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَ حَاجَةً له بِالْكُوفَةِ فَعَادَ فإنه يَقْصُرُ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قد بَطَلَ بِالسَّفَرِ كما يَبْطُلُ بِوَطَنٍ مِثْلِهِ‏.‏

وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا خَرَجَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ خَرَجَ منها إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ عَادَ من الْحِيرَةِ يُرِيدُ الشَّامَ فَمَرَّ بِالْقَادِسِيَّةِ قَصَرَ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَالْحِيرَةِ سَوَاءٌ فَيَبْطُلُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي وَلَوْ بَدَا له أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ يَرْتَحِلَ إلَى الشَّامِ صلى بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بمثله ولم يُوجَدْ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ في الزِّيَادَاتِ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَزْمُ على الْعَوْدِ لِلْوَطَنِ وهو أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَرَجَ من مِصْرِهِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ عَزَمَ على الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ وَلَيْسَ بين هذا الْمَوْضِعِ الذي بَلَغَ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ يَصِيرُ مُقِيمًا حين عَزَمَ عليه لِأَنَّ الْعَزْمَ على الْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَصَحَّ وَإِنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مُدَّةُ سَفَرٍ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا لِأَنَّهُ بِالْعَزْمِ على الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إلَى جِهَةٍ وَقَصَدَ السَّفَرَ إلَى جِهَةٍ فلم يَكْمُلْ الْعَزْمُ على الْعَوْدِ إلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ مُسَافِرًا كما كان‏.‏

وَذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ من خَرَجَ من مِصْرِهِ مُسَافِرًا فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فلم يَجِدْ الْمَاءَ هناك ‏[‏هنالك‏]‏ فَنَوَى أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَهُ وهو قَرِيبٌ فَحِينَ نَوَى ذلك صَارَ مُقِيمًا من سَاعَتِهِ دخل مِصْرَهُ أو لم يَدْخُلْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَصَدَ الدُّخُولَ في الْمِصْرِ بِنِيَّةِ تَرْكِ السَّفَرِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَصَحَّتْ فإذا دَخَلَهُ صلى أَرْبَعًا لِأَنَّ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَإِنْ عَلِمَ قبل أَنْ يَدْخُلَ الْمِصْرَ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ فَمَشَى إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ صلى أَرْبَعًا أَيْضًا لأنه بِالنِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا فَبِالْمَشْيِ بَعْدَ ذلك في الصَّلَاةِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا في حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِنْ حَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ السَّفَرِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لو جُعِلَ مُسَافِرًا لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَنَعَتْهُ عن مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ عن ذلك فَلَوْ تَكَلَّمَ حين عَلِمَ بِالْمَاءِ أَمَامَهُ أو أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا حتى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ في مَكَانِهِ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا وَلَوْ مَشَى أَمَامَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا ثَانِيًا بِالْمَشْيِ إلَى الْمَاءِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ بِخِلَافِ الْمَشْيِ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ أَخْرَجَتْهُ من أَنْ يَكُونَ سَفَرًا وَالله أعلم‏.‏